ماذا خسر المصريون بانحطاط الشيوعيين و اليساريين

الجزء الثاني
الشاعر الراحل نجيب سرور رحمه الله و غفر له

كتبه: كريم مصطفي في ٢٦ ديسمبر ٢٠١٨
بدءُ نجيب سرور في كتابة أولى تجاربه الشعرية، متأثراً بسقوط الكثير من الضحايا المصريين من الطلبة والعمال، أثناء الاحتجاجات والمظاهرات الشعبية الحاشدة المناهضة للاحتلال البريطاني لمصر، والمناهضة كذلك لـ "مشروع صدقي ـ بيفن" بين الحكومتين المصرية والبريطانية و مع قيام الجيش المصري بانقلاب عسكري فى يوليو ١٩٥٢أنفعل نجيب بالحدث فنزح من قريته الي القاهرة في نفس العام ١٩٥٢ و في القاهرة التحق نجيب بكلية الحقوق تلبية لرغبة والده، والتحاقه فى الوقت نفسه بالمعهد العالي للفنون المسرحية، مع زميله وصديقه المخرج والممثل الراحل كرم مطاوع،و تفوق في دراسته لفضل موهبته القوية و تصادف ان يكون تخرجه مواكباً لحدث تأميم قناة السويس في ١٩٥٦، وانفعال نجيب بالحدث. و نشر قصيدة نجيب سرور الشهيرة "الحذاء" بمجلة الرسالة (الجديدة) و التي يقول فيها
أنـا ابن الشـــقاء
ربيب الزريبــة و المصطبــة
وفى قـريتى كلهم أشـــقياء
وفى قـريتى (عمدة) كالاله
يحيط بأعناقنــا كالقــدر
بأرزاقنـــا
بما تحتنــا من حقول حبــالي
يـلدن الحيــاة
وذاك المســاء
أتانـا الخفيـر و نـادى أبي
بأمر الالـه ! .. ولبى أبي
وأبهجنى أن يقــال الالـه
تنـازل حتى ليدعـو أبى !

و لعل هذه القصيدة تصف لنا حال هؤلاء المثقفين المصريين و ما حدث لهم في المستقبل ، فأغلبهم قد آتي الي القاهرة من القري و الارياف حيث رأي الشقاء و العذاب و المآسي في طفولته و قد غلب التخلف علي مجتمعه فرأي في القاهرة الجنة و نعيمها حيث الثقافة و المدنية و هكذا تلقفته الحركات الشيوعية فأنضم اليها و راح يعمل لها بنشاط و انفعال. يخطئ كثيراً من يتصور ان الشيوعيين المصريين مجموعة من الكفرة الذين يعادون الاسلام و أهله، فهذا غير صحيح. فربما يكون بينهم بعض المشتتين فكريا فيما يتعلق بالدين او منهم من تأثر بالضياع الفكري الذي يغلب علي الشخصية الغربية او منهم من لا يريد الالتزام باداء الطقوس او العبادات الدينية و لكنهم و في مجملهم أغلبهم مازال يحمل بعض الايمان في قلبه او لا يحمل حقداً بحت علي الدين نفسه، فالشخصية المصرية تغلب عليها التدين أو علي الاقل حب الدين و هطه حقيقة لا تقبل الجدل. لقد عرفت الكثير من الشيوعيين العرب و الغير عرب و استطيع ان اقول ان هناك فرق كبير بين الشيوعيين المصريين و غيرهم من العرب مثل الشوام علي سبيل المثال. و انا هنا اتحدث عن الشيوعيين و اليساريين المصريين الاصليين و ليس العيال الهؤاة ممن اتخذوا هذا المذهب السياسي من باب الهوي او بسبب مرض نفسي و احساس بالنقص. و الذي حدث لنجيب سرور هو انه و اثناء وجوده في بعثة في الاتحاد السوفياتي تم سحب جواز سفره المصري لمهاجمته الممارسات القمعية فى مصر وسوريا فى إحدى المؤتمرات التضامنية مع الشعب الكوبي في سنة ١٩٦١ و في ظل مناداة هيكل بقيام سويس اجتماعية و تكميم افواه المثقفين و بالتالي فأنه تم منع مرتب البعثة عنه و اصبح مهدداً بالاعتقال في مصر في حالة رجوعه، و قد استغلت بعض الانظمة العربية المعادية لبعد الناصر هذا الحدث و حاولت تجنيد او استمالة نجيب سرور لهم فرفض، مما دعي الكاتب الراحل رجاء النقاش الي الدعوة صفحات جريدة الجمهورية بالسماح بعودة نجيب سرور (تائباً) من منفاه في بودابست و بالفعل عاد عم نجيب في ١٩٦٤و قدم اشهر اعماله الشعرية (ياسين وبهيّة) مع صديقه المخرج كرم مطاوع و تم تعيين نجيب سرور أستاذاً بالمعهد العالي للفنون المسرحية، و لكم سرعان م انتهي شهر العسل بين نجيب و النظام وفقد عمنا نجيب وظيفته هذه بعد عامين، و اعقب ذلك الزج به في المعتقلات و سرعان ما تم إيداع نجيب سرور قسراً في مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية، ليمر بتجربة ماسأوية لا يستطيع احد الي اليوم التحدث عنها، حيث وجد نفسه في معتقل سري في مستشفي الامراض العقلية مع خيرة ابناء مصر من العلماء و الطلبة و المثقفيين حيث يتم تعذيبهم و اغتصابهم و تدمير ادماغتهم و مع موت عبد الناصر ووصول السادات الي الحكم قرر السادات الافراج عن المعتقليين السياسيين و الذين كان منهم عمنا نجيب سرور، و لكنه لم يعد هو ذلك الشاب ذو الموهبة الابداعية الفذة، و انما اصبح اطلال او بقايا و رماد انسان كان…و من هنا كتب ديوانه الاشهر “الك#ميات” و الذي يشتهر بألفاظه الخارجة و التي قد يتحفظ عليها البعض، و لكن كيف تلوم او تتحفظ علي لغة انسان ذاق من العذاب و رآي من الأهوال ما لا يتخيله عقل ، ربما ستقول و لكن الدين و الاخلاق تمنعنا من هذا، و انت مٌحق في هذا بلا شك ، و لكن لك انسان قوة احتمال و شخصية تختلف من شخص لآخر

و نترك عمنا نجيب سرور الذي مات في عام ١٩٧٨ -عام مولدي- و نعود الي باقي الشيوعيين و اليساريين و المثقفيين الذي “اخذوهم في الرجلين” كما نقول بالعامية، فليس كل مثقف شيوعياً و لا يسارياً كما ان اليساريين انواع و كذلك الشيوعيين، و لكن النظام لا يفرق بين هذا كله، كان نـظام عبد الناصر مثله مثل نظام السادات و مبارك و هذا السفيه الموجود حالياً لا يقبل اي رأي آخر و لا يقبل بوجود اي صوت غير صوته هو فقط ، و في عام ١٩٦٥ كان الصراع الجدلي في المجتمع الثقافي المصري قد احتدم حول الرؤية السياسية من لما يُعرف بثورة ٢٣ يوليو و عليه فقد قام الكاتب الراحل صلاح عيسي بكتابة سلسلة مقالات بعنوان “الثورة بين المسير والمصير” أثارت الجدل و جعلت النظام يغضب علي الكاتب الشاب وقتها و تقرر بعدها توجيه ضربة أمنية لمجموعته اليسارية، و قد كان و كانت لائحة الاتهام التي وٌجهت اليهم هي: انتقاد نظام الحكم ومحاولة التسلل إلى منظمة الشباب الاشتراكي التابعة للاتحاد الاشتراكى، ( التنظيم السياسى الوحيد والشرعى آنذاك ) و كذلك الخروج على إجماع التنظيمات الشيوعية المصرية، التى كانت قد قررت أن تحل نفسها، وكان أعضاؤها قد عقدوا صلحا مع النظام وخرجوا من السجون ليسيطروا على المشهد الإعلامى والثقافي في مصر! و هكذا جرت حملة اعتقالات لم تشمل صلاح عيسي فقط انما تم اعتقال بعض اصدقائه ايضاً مثل عبد الرحمن الابنودي و الشاعر سيد حجاب و الاديب جمال الغيطاني و غالي شكري و غيرهم من الصحافيين و الكُتاب و الشعراء و مان ذلم في اكتوبر ١٩٦٦ و تم اعتقالهم في سجن القلعة في حجر حبس انفرادي نالوا فيها من اهوال التعذيب ما نالوا لمدة ٣٥ يوم و من ثم تم تجديد جوابات الاعتقال الي فترة ٦ شهور بالرغم من عدم ثبوت اي تهمة عليهم. و عندما تم الأفراج عنهم خرجوا فوجدوا مصر و قد اكتساها سواد و عار هزيمة ١٩٦٧، و لم تمضي شهور حتي بدأ عيسي و باقي المثقفين في المشاغبة مرة اخري و الهجوم علي النظام و بحلول عام ١٩٦٨ و قيام مظاهرات الطلبة ، لن يجد نظام عبد الناصر حلاً الا اللجوء الي الاعتقالات مرة اخري….و مرة اخري القي بصلاح عيسي و المثقفين علي اختلاف اتجاهاتهم السياسية بالمعتقلات و السجون و راح الجلاد يعذبهم مرة اخري، حتي جاء نظام السادات و كان حتماً عليه الافراج عن المعتقليين السياسيين، و لان السادات انسان ماكر و مخادع و نصب فقد قرر ان يلعب لعبة كانت هي السبب او علي الاقل احد اهم الاسباب التي ادت الي هذا الجهل الذي نعيش فيه

لقد قرر السادات ان يدعم التيارات الاسلامية فقام باخراج الاخوان المسلمين من السجون ثم سمح لهم بالعودة علي النشاط السياسي و سرعان ما تم اطلاق لقب الرئيس المؤمن عليه ، و انتشرت صوره و هو يصلي و اصبح زعيماً يدعو باسمه الخطاب في الجوامع و علي المنابر في يوم الجمعة و تفاعل السادات مع حالة الافورة فاصبح يزين خطاباته السياسية بآيات من القرآن الكريم، و من المفارقات المضحكة ان الذي كان يكتب للسادات هذه الخطابات هو نفسه من كتب له كتاب البحث عن الذات و هو موسي صبري، الكاتب و الصحفي المسيحي و الذي قال عنه شنودة بابا الاقباط في لحظة غضب إنه ‘‘رجل السادات قبل أن يكون ابن الكنيسة’’ و ذلك يوم ان قام السادات بتحديد اقامة شنودة بدير وادي النطرون و عزله و حبس ٨ اساقفة و ٢٤ كاهناً فكتب موسي صبري في اخبار اليوم مانشيت يقول عن هذا القرار أنه ‘‘أخطر من قرار أكتوبر” فغضب شنوده عليه و حقد عليه قلبه حتي انه عند وفاته في ١٩٩٢ رفض ان تقام عليه اي صلوات، و اما عن كيفية استعانته بكل هذه الكميات من الآيات القرآنية في خطابات السادات و مهارته في توظيفه لها فهذا ما وجدته و استنتاجته عندما قرأت في الفصل التمهيدى من مذكراته و الذي تكلم فيه عن طفولته وعائلته عندما ذكر أنه كان يحب القرآن بل ويحفظه ويحتفظ بنسخة منه أيضا حتي انه ذكر آن أمه عندما رأته يقرأ في القرآن قد نهرته بشدة وقالت له "آدي آخرة اللعب مع ولاد المسلمين” و جدير بالذكر أن تعرف يا صديقي أن موسي صبري كتب عدد ٩٨٠ مقالاً عن السادات فقط في الفترة ما بين ١٩٧٠ الي ١٩٨١ هذا غير ٢٤ كتاباً -مصطفي بكري استيل-، المهم نعود الي ما فعله السادات بهذا الدعم الهائل للأخوان المسلمين. للأسف كان الأخوان و التيار الاسلامي من السذاجة -كعادتهم- بحيث انهم دخلوا الي فخ الصراع الديني الذي نصبه لهم السادات ليقعوا فيه مع الشيوعيين و اليساريين

البقية في الجزء الثالث

إنعدام السلطة يٌحدث الفساد، و إنعدامها بدرجة مُطلقة يُحدث الفساد المُطلق



اقرأ ايضاً: ماذا خسر المصريون بانحطاط الشيوعيين و اليساريين | الجزء الأول  

" تعرف فلان … ايوه طبعا … عاشرته …. مممم لأ … يبقى متعرفوش ..." هكذا يقول المثل الشعبي، و كان هذا اول ما جاء في بالي وانا اقرأ بوست قصير لصديق عزيز و محترم عن الذكري الأولي لوفاة الكاتب الصحفي صلاح عيسي، و كان البوست ذو موقف سلبي من شخصية الكاتب الراحل، و لهذا فلقد احزنني ان اقرأ كل التعليقات التي انهالت علي الراحل بالسب و اللعنات ذلك لانه وعلي حسب اعتقادهم كاره للاسلام و اهله و بالرغم من اني متأكد بنسبة مليون في المية و بعيداً عن الصديق صاحب البوست فإنه لا يوجد واحد فقط من هؤلاء المعلقيين قد قرأ كتاب او حتي مقالة للاستاذ صلاح عيسي…. ......اقرأ المزيد



اقرأ ايضاً: ماذا خسر المصريون بانحطاط الشيوعيين و اليساريين | الجزء الثالث  

يعاني اليسار العربي بشكل عام والتيار الماركسي تحديداً من عدد من الأزمات الفكرية منذ نشأته الأولى في المجتمعات العربية والتي لم تكن البيئة الخصبة لنشأته، أو البيئة كاملة الظروف التاريخية والإجتماعية لنشأته كالتي رافقت ظروف نشأته الأولى في أوروبا فصعد وفرض نفسه بسرعة فائقة، و لعل اكبر هذه الأزمات الفكرية هي مسألة النقد الديني الذي ظهر و كأنه ذو طابع عدائي للدين و لم يكن هناك فرصة اعظم من هذه لدي السادات الخبيث لضرب الطبقة المثقفة في مصر و الاجهاز عليها تماماً و كان هو بهذا اذكي من عبد الناصر و هيكل و أكثر خبثاً. فبعض ان اطلق السادات الاسلاميين علي اليساريين و الشيوعيين وقع بعض الماركسيين في نفس الفخ الذي وقع فيه الاسلاميين بالتحليل الخاطئ للماركسية بناءاً علي فهمهم لها علي فكرة “لا إله و الحياة مادة” كمقدمة للكفر والإلحاد، على الرغم من أننا لو رجعنا لكل الكتب الماركسية بشروحاتها لن نجد لهذه العبارة أصل واقعي، لأن ذات الماركسية لم تأت لتنقض الدين، بل بدأت من بعده وبالذات بعد مرحلة الصراع الدامي بين البرجوازيات الرأسمالية والإقطاع والكنيسة، فهي......اقرأ المزيد



ادعمنا علي باتريون

أهلاً بيك في حسابي علي باترون و شكراً لك علي التفكير في محاولة دعم المحتوي الذي اقدمه ، أنا كريم مصطفي ، صحفي استقصائي ، احاول ان اقدم للشعوب العربية في العموم و الشعب المصري في الخصوص محتوي بنقل الحقائق المجردة بعيداً عن المعوقات والقيود التي تضعها أنظمتنا العربية علي المؤسسات الاعلامية. و لقد أنشأت هذا الحساب من أجل تلقي الدعم الذي استطيع من خلاله الاستمرار في تقديم المحتوي و تطويره ........اقرأ المزيد

أخترنا لكم


الإعلام الأسود

تحول قطاع الإعلام إلى مشروع سياسي واقتصادي، وإلى صناعة للرأي العام بهدف تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وفكرية وتجارية. إن صناعة الكذب في....اقرأ المزيد


الإغراق الإعلامي

هد عصرنا الحالي فورة في الإغراق المعلوماتي، بحيث أصبحنا نرزح تحت وطأة كميات مرعبة من الفبركات الإعلامية، والمعلومات المضللة، والأخبار الكاذبة....اقرأ المزيد


الفرق بين الثورة و الكفتة

من المؤكد إنه من العبث أن أضيعي وقت و وقتكم في التفريق بين الثورة و الكفتة و المقارنة بينهما او محاولة إيجاد الفروق و الأختلافات بينهما، فنحن جميعاً و بلا شك ....اقرأ المزيد


عندما أكلت مصر الحلاوة

حوي يا وحوي رمضان كريم يا وحوي فك الكيس و اديني بقشيش يا نروح منجيش يااااااااا وحوي هكذا يشدو الأطفال في ليالي رمضان و هم يحملون فوانيسهم ال....اقرأ المزيد