من حكايات يهود مصر

قصة عائلة يهودية مصرية

كُتبت في ١١ أكتوبر ٢٠٠٩
القصة منقول من كتاب “الخروج من مصر” للكاتب اليهودي الامريكي ، السكندري المولد ، اندرية اسيمان و الذي قدمه د. محمد ابو الغار في كتابه الممتع “يهود مصر من الازدهار الي الشتات” و سانقل لكم تقديمة د. ابو الغار حتي تكون لدينا خلفية عن الكاتب. يقول د. ابو الغار: “ يحكي المؤلف اندريه اسيمان قصة عائلته اليهودية التي عاشت في الاسكندرية لاكثر من خمسين عاما في القرن العشرين ، و هاجرت-بعد ذلك- الي الخارج، و الكاتب هو احد افراد الجيل الرابع لهذه العائلة. و لقد خرجت بعد قراءة الكتاب بانطباع بان الكاتب صريح و صادق ، ويحكي تاريخ الاسرة ببساطة و دقة ، و ربما يكون من اسباب ذلك ان الكاتب كان شاهد عيان علي كثير من الاحداث ، و انه قابل بعض افراد العائلة من كبار السن الباقين علي قيد الحياة ، و جلس معهم للتوثيق و التآكد من معلوماته ، و ان معظم -ان لم يكن كل- افراد العائلة الذين ذكرهم الكاتب قد غادروا الحياة عند نشر الكتاب ، مما لا يضعه في موقف حرج مع شخصيات معاصرة يمكن ان تقرآ الكتاب. ولم يحاول الكاتب ان يجمل وجه العائلة في مصر ، بل ذكر كل مشاعرها الحقيقية ، الجيدة و السيئة تجاه مصر و المصريين. و الكاتب ولد في الاسكندرية ، وعاش طفولته و شبابه الي ان غادرها عام ١٩٦٤ و قد درس في جامعة هارفارد العريقة بالولايات المتحدة ، وهو يقوم حاليا بتدريس آداب اللغة الفرنسية في جامعة برينستون. و الآن اليكم حكاية هذه العائلة اليهودية

ترجع اصول هذه العائلة اليهودية منذ مئات السنين الي اسبانيا حين طرد اليهود منها عام ١٤٩٢ ميلاديا. و هاجرت الاسرة الي تركيا ، و عاشت في استانبول ، وفي القرن التاسع عشر حاول افراد العائلة -مثل كثير من اليهود الاتراك- البحث عن جنسية اوروبية اثنا اقامتهم في تركيا ، وذلك الي جانب جنسيتهم التركية التي حملوها اجيالا. وقد نجح الكثيرون في ادعائهم ان اجدادهم القدامي الاسبان هاجروا الي ميناء ليفورنو الصغير في ايطاليا بجوار بيزا حيث عاشوا هناك. لذلك فهم يستحقون الجنسية الايطالية ، وبالفعل حصل عليها الكثيرون من افراد هذه العائلة ، ودخل بعضهم المدارس الايطالية في استانبول لتعلم اللغة الايطالية ، وبقي الكثيرون من الذين يحملون الجنسية الايطالية لا يعرفون حرفا من هذه اللغة. و قد بدأت العائلة في التفكير في الهجرة من تركيا عندما احست بآفول نجم الامبراطورية العثمانية ، وكان الحافز الاكبر لاختيار بلد المهجر هو الصداقة الوثيقة التي ربطت بين احد افراد العائلة المدعو ايزاك و الامير آحمد فؤاد ابن الخديوي اسماعيل و الذي اصبحا سلطانا ثم ملكا فيما بعد. وقد بدآت الصداقة بينهما في احدي الجامعات الايطالية ، حيث تزاملا معا في السنة الدراسية نفسها. و من ثم هاجرت الاسرة بآبنائها الثلاثة : نسيم و ايزاك و آرون(المسمي فيلي) و بناتها الاربع الي الاسكندرية عام ١٩٠٥ بعد ان باعت ممتلكاتها في استانبول(والتي لم تكن بالكثير) استوطنت الاسرة مدينة الاسكندرية وعاشت فيها لاكثر من نصف قرن ، حتي غادرها آخر فرع في العائلة و منهم مؤلف الكاتب عام ١٩٦٤ و قد توارثت العائلة لغة اللادينو

كان الابن الاصغر للعائلة و المسمي فيلي شخصية غريبة الاطوار متتعدد المواهب و القدرات ، تمثل الشخصية اليهودية اصدق تمثيل ، فبعد ان تعلم الايطالية و الفرنسية الي جانب التركية و اللادينو ، جند في الجيش التركي و حارب في صفوفه ، ثم انضم الي الجيش الالماني ، وشارك في الحرب العالمية الاولي تحت العلم الالماني ، وبالطبع اتقن اللغة الالمانية ، وعندما دخلت ايطاليا الحرب العالمية الاولي مع الحلفاء ، انتقل فيلي للجانب الاخر ، وحارب في صفوف الجيش الايطالي ضد الالمان ، وهرب من الجيش بعد الهزيمة المفجعة للايطاليين ، وذهب ليعمل في جزر البحر الابيض المتوسط ، ثم لحق بالعائلة التي هاجرت الي الاسكندرية ، وفيها افتتح صالة للمزادات تبيع التحف و الانتيكات. وفي الثلاثينات و مع ظهور الفاشية ، كان من اكبر مؤيدي موسيليني من الجالية الايطالية في الاسكندرية ، حتي ان موسيليني اهداه موسوعة موقعة منه شخصيا بيعت بعد ذلك لاحدي المكتبات قبل مغادرة العائلة مصر نهائيا. وكان يرسل خطابات تحية و تشجيع لهتلر ، وطلبته المخابرات الايطالية ليكون عميلا لها و قبل ان يوافق علي ذلك ذهب الي المخابرات البريطانية في الاسكندرية و عرض عليهم الامر!! فانضم رسميا كجاسوس للتاج البريطاني عام ١٩٣٦ ، علي ان يقبل العمل ظاهريا مع الايطاليين ، و تنقل بين روما و القاهرة و اثيوبيا التي كان موسوليني قد غزاها ليتجسس علي الايطاليين لصالح الانجليز. و كانت المخابرات الايطالية تصدر له كميات هائلة من التحف و الاثاث الايطالي القديم من روما الي صالة المزادات في الاسكندرية بمبالغ رمزية حتي يكون هناك مبرر لسفره المتكرر الي روما امام عيون الانجليز. و كان فيلي يتباهي بان اخاه ايزاك و بالتالي هو شخصيا يضع الملك فؤاد ثم الملك فاروق في جيب الصديري الصغير. وقد ساعد الملك في تعيين فيلي عضوا في مجالس الادارة لعدد كبير من الشركات الكبري في مصر بمرتبات مرتفعة!! وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية كافآته الحكومة الانجليزية بمنحه الجنسية البريطانية ، ولم تكن علاقة فيلي بالحركة الصهيونية في مصر علي ما يرام، فقد اتهمه رجالها بانه يتجسس لصالح الانجليز ضدهم في الفترة التي سبقت قيام دولة اسرائيل ، بل و حاولوا الاعتداء عليه

وبعد قيام دولة اسرائيل احس فيلي بقلب الجاسوس و عقله ، انه يجب ان يعد العدة في وقت ما للرحيل من مصر، وتآكد هذا الاحساس بعد قيام الثورة عام ١٩٥٢ ، فبدآ يهرب امواله الضخمة الي الخارج ، وباع بالتدريج كل ممتلكاته ، ما عدا فيلا قديمة مليئة ببعض الاثاث الذي لا يساوي شيئا. ويبدو ان فيلي كان يرآس منظمة للتهريب ، وربما للجاسوسية ضد مصر!! وفي عام ١٩٥٥ نظمت الاسرة حفلا ضخما استمر ثلاثة ايام لمئات المدعوين ، احتفالا بعيد الميلاد المئوي للجدة الكبري رآس العائلة التي هاجرت عام ١٩٠٥ الي مصر، وكان عمرها آنذاك خمسة و اربعين عاما ، وبلغت -الآن- مائة عام ، وهي بصحة جيدة و ذاكرتها قوية. وفي مساء اليوم الثالث و الاخير لحفل عيد الميلاد القي ابنها الاكبر نسيم كلمة لتكريم امه و تآكد من مائة شمعة قد اضيئت غي انحاء المنزل ، و القت الجدة كلمة تحية ، بدآت بالتركية التي كانت قد نسيتها ، وحاولت التكملة بالايطالية الركيكة ، لكنها غيرت الي الفرنسية التي تجيدها ، ولم يكن هناك شيئا بالادينو ، لان اقل القليل من الحضور يعرفها. وفجآة دخل احد اصدقاء الاخوة ، وهو يلهث قادما من الخارج ، وطلب مقابلة فيلي علي انفراد ، واخبره بان احد اعضاء الخلية التي ينتمي اليها فيلي قد قيض عليه ، وضبطت معه ورقة بها بضعة اسماء منها فيلي و بعض المعلومات الاخري ، منها ارقام الحسابات في سويسرا. ونادي فيلي بقية الاخوة ، واخبرهم بانه سوف يغادر مصر نهائيا وفورا ، وطلب ان تستمر الحفلة بطريقة عادية حتي لا يلاحظ احد شيئا ، و قد رفض السفر هاربا علي ظهر سفينة تجارية يونانية تغادر الميناء بعد بضع ساعات ، و اخذ حقيبة من المنزل فيها بعض الملابس القديمة ، وانطلق مع السائق الي مطار القاهرة ، وقبل ان يتم التبليغ بالقبض عليه ببضع ساعات كان قد غادر القاهرة. و من عجائب القدر ان تستدعي الحكومة فيلي بعد اربع سنوات خبيرا اجنبيا لبيع مقتنيات العائلة المالكة في المزاد العلني. فيلي حاملا الجنسية البريطانية الي انجلترا ، و غير اسمه الي اسم انجليزي قح ، وغير ديانته الي المسيحية ، واشتري ضيعة في الريف الانجليزي ، ليتقاعد فيها دون ان يعلم او يحس احد بانه اجنبي ، او ان له تاريخا تشيب له الرؤوس. وعندما ذهب المؤلف لزيارة خاله فيلي ، حين كان في الثمانين من عمره في ضيعته بانجلترا ، حيث يعيش مع اولاده واحفاده ، رفض الحديث عن الاسكندرية، و عندما ذكر امامه بعض اسماء الاصدقاء و الاقارب ، قال: ان هذا التاريخ زبالة، و المهم هو الحاضر ، آليس المنظر رائعا هنا في الريف الانجليزي؟ و بعد قضاء يومين في ضيافته عرف بالمصادفة من احفاد فيلي انه كان من عادته قبل ان ينام ان يغلق الحجرة علي نفسه ، بحيث لا يعرف احد انه يستمع لنشرة الاخبار بالفرنسية لمدة ساعة كاملة من محطة راديو اسرائيل

و قد قام كل المهاجرين إلي مصر من العائلة بعمل مشروع مختلف ، بدءا من افتتاح صالة بلياردو الي صالة مزادات الي محل لبيع و اصلاح الدراجات، و تكبر العائلة في الحجم و الثروة ويزداد عددها ، و تسكن في الابراهمية بالاسكندرية وسبورتنج ، ثم تنتقل الي سموحة. وكان لهم بيت في المندرة ينتقلون اليه كل صيف ، وكانوا في بحبوحة من العيش ، و لديهم الخدم و الطباخون و السفرجية و السائق. واستمرت العائلة تعيش حياة سعيدة ، بالرغم من القلق الشديد الذي راودهم في فترة معركة العالمين ، وخوفهم من انتصار الالمان ، وهو ما كان يعني هروبهم من مصر و احتمال القبض عليهم. وكانت تلك الفترة من الفترات العصيبة في حياة يهود الاسكندرية ، وقد حددت الحكومة البريطانية اقامة الرعايا الايطاليين و الالمان ، خوفا من ان يكونوا طابورا خامسا لجيش روميل. ولكن هذه العائلة التي كان افرادها يحملون جوازات سفر ايطالية لم تمس من قريب و لا من بعيد ، لانهم يهود اولا و ثانيا لان فيلي يعمل جاسوسا للانجليز. و قبل معركة العلمين ترك الجميع منازلهم ، و ذهبوا الي الجدة الكبري في منزلها الذي رفع منه الاثاث ، و فرشت النراتب علي ارض البيت ، لينام الجميع رجالا و نساء و اطفالا كل يوم ، حتي انتهت المعركة بهزيمة روميل ، فعاد كل الي بيته حتي قيام دولة اسرائيل ، في ذلك الوقت عندما شعرت الاسرة مرة اخري بالخوف من الشعور العدائي المتوقع من المصريين تجاه اليهود ، ذهبوا مرة اخري الي الجدة الكبري ، ففرشت المراتب و نامت العائلة جميعها علي الارض حتي هدآت النفوس ، و عاد الجميع مرة اخري الي منازلهم.

اما الاخ إيزاك فكان الصديق الشخصي للملك فؤاد ، و من بعده الملك فاروق ، و قد وصلت درجة الصداقة الي حد ان ايزاك اخبر الملك فؤاد بان اخته قاربت علي سن الاربعين و لم تتزوج بعد ، فساعده الملك بترتيب زواج اخته من يهودي يقيم في مصر ، يسمي آلدو خون و يعرفه العامة باسم خون باشا.!!!!! و لفرط ثقة الملك فؤاد و حبه للسيد ايزاك عينه في منصب مدير عام وزارة المالية!! وساعد ايزاك اخاه فيلي في الوصول الي مناصبه الكثيرة ، و ساعد في تعين اعداد كبيرة من افراد العائلة -سبابا و شيوخا- في مناصب ادارية كبري في الشركات و البنوك بمرتبات كبيرة مغرية. و قد بلغت مساعدات الملك لايزاك حدا غير معقول ، عندما تدخل لمساعدة احد اقارب العائلة في الهروب من المانيا ، و اعطاه جوازي سفر دبلوماسيين مصريين له و لزوجته!!!! اما الاخ نسيم فلم يكن له دور واضح ، باستثناء حبه للهدوء و القراءة و لعب الجولف بصفة دائمة. اما البنات فقد تزوجن من يهود من ذوي اصول غربية ( اشكناز ) في الاسكندرية ، وكان هناك يهودي عربي كان قادما من حلب ، تزوج احدي الاخوات ، وكان الوحيد من غير اليهود الاوربيين الذي دخل هذه العائلة ، وقد نظر اليه الاخوة جميعا بنظرة متعالية فيها بعض الاحتقار

العائلة وعدوان ١٩٥٦

يحتل العدوان الثلاثي علي مصر جزءا مهما في تاريخ هذه العائلة، لانه كان حدا فاصلا في علاقتهم بالحكومة المصرية ، التي بدآت يشوبها بعض القلق بعد القلق بعد ١٩٥٢ ، وتطورت العلاقة تدريجيا حتي وصلت الي قمة الاحداث اثناء عدوان ١٩٥٦ حين ظهر بوضوح الي اي جانب يقفون و اتخذت الحكومة موقفا شديد الحزم و الحذر منهم. و من ناحية اخري كان لاشتراك اسرائيل في العدوان الثلاثي اثر حاسم في اثارة الشعور الشعبي ضد اليهود ، خاصة بعد ما ظهر من تصرفاتهم اثناء العدوان. وهناك الكثير من الاحداث التي كان الكاتب فيها شاهد عيان اثناء فترة حرب ١٩٥٦ ، وتدل علي عدم تعاطف و انتماء هذه العائلة و مثيلاتها الي مصر. فعند حدوث اول غارة جوية علي الاسكندرية ، كان الكاتب صبيا مع امه في وسط المدينة ، و بعد ان اطفئت الانوار دخلا الي محل بقالة يملكه اجنبي ، واقفل الباب علي مجموعة من الزبائن كلهم من الاجانب ، فسمع الصبي في الظلام اصواتا تقول : سوف يتم سحقهم في يوم او اثنين ، وسوف يلقن الانجليز المصريين درسا يستحقونه لقيامهم بتآميم القناة و سوف تعود الامور كما كانت، و ايده آخر بلكنة اجنبية قائلا : ان شاء الله. وبعد ان وصلت الام بعد معاناة الي منزل العائلة مع ابنها في الظلام وجدت هذه العائلة مكتملة، وقد فرشت المراتب علي الارض للمرة الثالثة خلال خمسة عشر عاما ، حتي ان ينام جميع الاخوة و الابناء مع اسرهم. ولم تلتزم العائلة باطفاء الانوار بالكامل و بدآوا يسمعون صياحا في الشارع : اطفئ الانوار ، وصعد احد البوابين الي شقتهم قائلا: اطفئوا النور تماما، هل تريدون ان يضربونا بالقنابل ، و اذا لم تطفئوا الانوار سوف ابلغ البوليس بانكم جواسيس

واثناء الظلام الدامس قال الاخ نسيم الذي كان عمره اكثر من ثمانين عاما: - دعنا ننتظر حتي تنتهي الحرب ، وسوف يري هؤلاء المتوحشين المصريون جزاء ما فعلوا ، لقد تحملنا هذه الافكار و الشعارات الوطنية اكثر مما ينبغي. ورد عليه اخوه ايزاك و كان في الثمانين من عمره: هل يعرف هؤلاء الذين يزعقون انا”اطفئ الانوار” من نحن؟ لقد كان في استطاعتي معاقبتهم بالجلد بالكرابيج و السجن يوما ما( وذلك في اشارة الي علاقته القوية بالملك السابق ) و صاح احد الصغار: آه ، لو كان الملك موجودا. وصاحت الاخت مارتا التي كانت قد تعدت السبعين: نحن في حاجة الي موسي جديد ، اعني بذلك موسي مودرن ، ورجالنا الذي يصلح ان يكون موسي هو فيلي الذي غادرنا العام الماضي الي انجلترا ليعيش بقية عمره. ثم سآل احدهم : كم من الوقت يكفي لسحق الجيش المصري؟ و اجاب آخر يومين او ثلاثة ، وسوف يستقر الامر خلال بضعة اسابيع كما كان تماماً. واخذت العائلة كلها تحاول التقاط احدي الموجات القصيرة للاذاعات الاجنبية التي اعلنت احتلال بور سعيد ، وهنا ارتفعت صيحات الفرحة و التهليل من جميع افراد العائلة ، ووقفت الاختان الكبيرتان ترقصان من الفرح علي ضوء الشمعة الوحيدة!! وصاح نسيم : لو كان فيلي معنا لكان فتحج زجاجة شمبانيا. و عندئذ وقف ايزاك صائحا بلغة اللادينو : توقفوا الآن و كفي، ان بيتا ملئ بالخدم العرب ، ونحن لا نعرف مشاعرهم الحقيقة تجاه ما يحدث ، وتجاه شعورنا الظاهر بالفرح

وفي صباح اليوم التالي لبدء الحرب غادر نسيم المنزل الي نادي سموحة للعب الجولف كعادته كل يوم ، و ارسل ايزاك احد الخدم ليشتري له جميع الصحف و المجلات بجميع اللغات ، وبدآت العائلة الكبيرة تعد افطارها الذي وصفه احدهم بانه كان افخم من افطار اعظم فندق في العالم. و علي المائدة سآلت الجدة احد افراد الجيل الثالث: ماذا تريد ان تعمل عندما تكبر؟ فقال: اريد ان اصبح سفيرا. ، فساله العم : و ما البلد الذي ستمثله و تكون سفيره؟ فكانت الاجابة سريعة: فرنسا طبعا. فقال له العم: ولكنك لست فرنسيا! بل تحمل جواز سفر ايطاليا ، و في الحقيقة انك لست ايطاليا ، فانت تركيا !!! وبما ان جميع افراد العائلة كانوا دائما يتحدثون عن تركيا الدولة التي احتضنتهم لعدة قرون باحتقار شديد ، فقد اهعلن الشاب الصغير انه لا يريد ان يكون سفيرا لتركيا ، و انه سينسي الفكرة من اساسها! و بعد الفطار خرج ايزاك و معه الشاب الصغير اندريه اسيمان الراؤي لهذه القصة لمقابلة اهم سمسار يهودي في البورصة المصرية. وقد كان هذا السمسار هو السمسار الاساسي للاجانب و الاغنياء المصريون ، وكان يسكن في فيلا كبيرة بالقرب من منطقة بولكي بالاسكندرية و كان الغرض من الزيارة تقصي الاخبار تحسبا للمستقبل. و كان رآي السمسار ان الانجليز و الفرنسيين سوف ينسحبون من مصر، و ان جمال عبد الناصر لن يغفر لهم ذلك. و سيكون هناك ثآر من الانجليز و الفرنسيين ، وربما يلي ذلك تآميم ممتلكاتهم ، ثم طرد اليهود انتقاما من هجوم اسرائيل. فاعترض ايزاك قائلا: لكننا لسنا من اسرائيل. فقال السمسار: يمكنك ان تقول ذلك للرئيس عبد الناصر. فعلق ايزاك: هذه الايام من ايام هجوم روميل علي العالمين. وقال ايزاك للسمسار: اذا حدث لي شئ تذكر اسم كراوس في جنيف ، واخي فيلي يعرف في انجلترا. فامسك السمسار علبة سجائر ليكتب عليها الاسم ، فحذره ايزاك ونبهه ان هذه المعلومة لابد ان تبقي في الذاكرة فقط. وفي اليوم التالي ظهر البوليس في شقتهم ليسآل عن شخص كان يرسل اشارات مورس الي السفن في البحر المتوسط ، لكنه تركهم دون ان يفعل شيئا. وقررت الجدة ان العائلة تحتاج الي حظ احسن ، فامرت بوضع منقد الفحم الكبير علي الارض ، و بعد ان اشعلته وضعت عليه البخور ، و كان علي الجميع ان يقفزون فوق المنقد الذي يتصاعد منه البخور ، بدءا بالرجال ثم النساء ثم الخدم. وعاد رجال البوليس مرة اخري في اليوم آخر ، وقالوا ان لديهم دليلا قاطعا علي ان ايزاك يهرب الاموال و المجوهرات الي الخارج و ان اخاه فيلي كان يقوم بذلك لسنوات طوال. و قبض عليه بتهمة خيانة الدولة ، فقال: ان عمري ثمانون عاما. وحاولت اخته ان تقول للشرطة انه لا يمكن القبض عليه، لانه مواطن لدولة اوروبية!! وقال اخوه نسيم : لو سجنتموه فلن يعيش يوما واحدا

وبعد اسبوع من القبض علي ايزاك وصل للعائلة تلغراف من فرنسا و كان الراسل هو ايزاك يخبرهم فيه بوصوله اليها آمنا سالما. وبدآت العائلة مناقشة الهجرة من مصر و التخطيط لها ، و هو ما تحقق علي ارض الواقع لجميع افراد العائلة ماعدا و الد المؤلف الذي كان يملك مصنعا للنسيج يدر عليه ارباحا هائلة ، وكان يود ان يبقي مع عائلته في الاسكندرية ، وفعلا بقي فيها ثمانية سنوات حتي غادرها عام ١٩٦٤ ، و خلال تلك الاعوام تغيرت الاسكندرية ، وتغيرت الحياة في مصر، واممت كلية فيكتوريا التي كان يدرس ابنه( مؤلف الكتاب) فيها ، وتحولت الي كلية النصر و اصبح تدريس اللغة العربية اجباريا فيها ، و اصبح هو اليهودي الوحيد في الفصل ، و كان عليه ان يحفظ آيات من القرآن ضمن دروس اللغة العربية وان يحفظ الآناشيد التي تمجد العرب و تحتقر من اسرائيل ، و بالطبع لا يقارن هذا بما يدرسه الآلاف من التلاميذ العرب في اسرائيل عن تاريخ اسرائيل و امجادها، وتحقير كل ما له علاقة بالعرب ، وكان ابوه مصرا علي ان يستمر في المدرسة ، لانه اذا اراد ان يعيش في مصر في ذلك العصر ، فلابد ان يجيد لغتها ، و قد لاقي الصبي كثيرا من العنت في تلك الفترة ، تارة من المدرسين و تارة من الزملاء حتي رضخ ابوه و نقله الي المدرسة الامريكية ، التي لم تكن اللغة العربية اجبارية فيها. واضطر ابوه الي ان يغادر مصر نهائيا بعد ان اممت املاكه بعد ذلك. ويذكر الكاتب انه اثناء زيارة الي المقابر اليهودية بالاسكندرية في يوم كيبور و كانوا يخططون لترك مصر ، قال له ابوه: انه من المحزن ان نترك احباءنا في قبورهم يتقلبون ، علي حين نخطط نحن للمغادرة ، و لعلهم يسالوننا لاماذا جئنا في المقام الاول و نحن نكره هذا البلد الذي دفنوننا فيه؟

واعتقد ان الكاتب كان امينا في رواية الاحداث الحقيقة التي مرت بعائلته، وحاول جمع المعلومات و مقابلة الاحياء لاستكمال الاحداث ، و لم يحاول ان يجمل الشخصية اليهودية ، بل اظهر بوضوح ان الجميع لم يحب مصرنا و لا شعبنا و انما احب اسكندريتهم و بحرها و جمالها. و الكتاب يعطي انطباعا واضحا بان مصر كان فيها دولتان ، احداهما للمصريين و الاخري للاجانب، و من خلال صفحات هذا الكتاب و التي تقترب من الثلاثمائة صفحة ، و تغطي اكثر من خمسين عاما من تاريخ مصر في القرن العشرين ، لم نقرآ عن حدث واحد مثل ثورة ١٩١٩ او مظاهرات ١٩٣٥ او التغيرات السياسية النتلاحقة ، و لم يذكر اسم زعيم او وزير مصري واحد ، و لا اسم كاتب او اديب او فنان مصري ، و لا حتي راقصة مصرية. فالكتاب ملئ باسماء و شخصيات كلها اجنبية ، اما الاسماء المصرية الكثيرة ، فهي فقط اسما الخدم بانواعه كافة. و قد قالت الجدة في كلمتها احتفالا بعيد ميلادها المئوي انها تعرف خمسين كلمة عربية ، بمعدل كلمة عن كل سنة اقامتها في مصر، و بالرغم من ان هذه العائلة لم تذهب الي اسرائيل ، الا ان زعيمهم العم فيلي المقيم بانجلترا كان يستمع كل ليلة لمدة ساعة كاملة الي نشرة الاخبار بالفرنسية من محطة اسرائيل. و كان العم ايزاك يتعلم العبرية الدارجة و هو في الثمانين من عمره ، لانه يتمني ان يموت باسرائيل


ولا يمكن الاعتقاد بان معاناة تلميذ يهودي واحد-بسبب دراسته لتاريخ الشرق الاوسط من وجهة النظر المصرية التي تدين اسرائيل- يسبب الكوارث التي سببتها اسرائيل لمصر و المنطقة من حولها ، فهي مختلفة عن معاناة آلاف التلاميذ الفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الاسرائيلية ، عندما يقرآون التاريخ الذي يمجد اسرائيل و لا يعترف بآي حقوق للعرب

ولا يمكن الاعتقاد بان معاناة تلميذ يهودي واحد-بسبب دراسته لتاريخ الشرق الاوسط من وجهة النظر المصرية التي تدين اسرائيل- يسبب الكوارث التي سببتها اسرائيل لمصر و المنطقة من حولها ، فهي مختلفة عن معاناة آلاف التلاميذ الفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الاسرائيلية ، عندما يقرآون التاريخ الذي يمجد اسرائيل و لا يعترف بآي حقوق للعرب. ويوضح الكتاب ان معظم الاجانب و اليهود الذين هاجروا الي الاسكندرية كانوا فقراء في اوروبا ، وبعد فترة وجيزة من هجرتهم الي مصر اصبحوا يعيشون حياة رغدة ، ومنهم من ربح امولا طائلة ، و لم يشعر اي منهم -بآستثناء بعض اليونانيين- ان هذا الوطن يمكن ان يكون وطنهم الدائم ، و ان يندمجوا فيه و يتعلموا لغته. وحقيقة الامر انه عندما اممت ممتلكات الاجانب اليهود ، كان ذلك جزاءا من سلسلة تآميمات سياسية للدولة ، وطالت الاغنياء المصريين ايضا في قطاعات الصناعة و التجارة و الزراعة. وعندما هاجرت العائلة الي اوروبا مرة اخري ، و استوطن معظمهم في فرنسا اصبحت حياتهم بسيطة في شقق صغيرة بدون الخدم والحشم و الطباخين و السائقين

ويوضح الكتاب ان معظم الاجانب و اليهود الذين هاجروا الي الاسكندرية كانوا فقراء في اوروبا ، وبعد فترة وجيزة من هجرتهم الي مصر اصبحوا يعيشون حياة رغدة ، ومنهم من ربح امولا طائلة ، و لم يشعر اي منهم -بآستثناء بعض اليونانيين- ان هذا الوطن يمكن ان يكون وطنهم الدائم ، و ان يندمجوا فيه و يتعلموا لغته. وحقيقة الامر انه عندما اممت ممتلكات الاجانب اليهود ، كان ذلك جزاءا من سلسلة تآميمات سياسية للدولة ، وطالت الاغنياء المصريين ايضا في قطاعات الصناعة و التجارة و الزراعة. وعندما هاجرت العائلة الي اوروبا مرة اخري ، و استوطن معظمهم في فرنسا اصبحت حياتهم بسيطة في شقق صغيرة بدون الخدم والحشم و الطباخين و السائقين

عندما يستعرض الجيش قواته أكثر من 6 أشهر، ولا يقوم بمهاجمة العدو، نعرف أنه يشكل خطرا على شعبه
أدولف هتلر



اقرأ ايضاً: ملف صفقة القرن - رؤية مختلفة

لا شك ان صفقة القرن هو حدث صادم و اصاب الناس بالحزن و الغضب و هو ما جعل الكثيرون يكتبون عنها او يحللون الأحداث طبقاً لما ظاهر لهم و متوافر لهم من اخبار و تطورات في الأحداث. في هذه السلسلة سنبدأ في الحديث عن صفقة القرن من رؤية مختلفة حيث ان خطورتها اكبر مما نتخيله او يُطرح علينا من رؤي و تحليلات ، فصفقة القرن قد تنتهي بسقوط عدد من الدول العربية و انظمتها او ان تكون بدأية النهاية لاسرائيل نفسها التي تحلم باعتراف العالم بيهودية دولتهم المزعومة، و لعل اكثر هذه الدولة المهددة بالانهيار هي الأردن و الإمارات و السعودية و مصر و عمان و من هذا المنطلق سنتحدث عن الكثير من الوقائع و الأحداث التي وقعت و لها علاقة بصفقة القرن........فتابع معنا هذا الملف

أخترنا لكم